رسومات الأطفال 

 

رسومات الأطفال

رسومات الأطفال

تُعد رسومات الأطفال لغة عالمية صامتة، تُفصح عن عوالمهم الداخلية الغنية، ومشاعرهم المتشابكة، وتجاربهم الحياتية التي قد تعجز الكلمات عن وصفها. فمنذ اللحظات الأولى التي يمسك فيها الطفل بقلم أو فرشاة، يبدأ في نسج خيوط عالمه الخاص على الورق، مُحوّلاً خطوطه وألوانه إلى رموز ودلالات تُشير إلى ما يدور في خلده، وما يُخبئه قلبه الصغير.

إن فهم هذه الرسومات ليس مجرد هواية، بل هو علم قائم بذاته، يُقدم للمربين والمعلمين والآباء مفتاحًا ثمينًا لفك شفرات شخصية الطفل، واحتياجاته، وحتى مخاوفه الخفية. يُنظر إلى الرسم على أنه وسيلة تعبيرية حرة، لا تُقيدها قواعد اللغة أو قيود التعبير اللفظي، مما يجعله أداة تشخيصية ونفسية لا تُقدر بثمن في فهم نمو الطفل وتطوره.


رسومات الأطفال كلغة صامتة للطفل

 

يُعتبر الرسم نشاطًا فطريًا يُمارسه الأطفال حول العالم، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو اللغوية. إنه ليس مجرد تسلية، بل هو وسيلة أساسية للتواصل والتعبير عن الذات في مراحل النمو المبكرة. فقبل أن يُتقن الطفل فن الكلام أو الكتابة، تُصبح يداه وعقله أدواته الرئيسية لترجمة ما يراه ويشعر به.

تُستخدم الخطوط والأشكال والألوان كأبجدية بصرية، تُشكل جملًا تُروى بها القصص، وتُعبر بها عن المشاعر التي قد لا يجد لها الطفل مفردات مناسبة. إذ يُسهم الرسم بشكل كبير في تنمية الجوانب المعرفية والعاطفية والاجتماعية للطفل. فهو يُعزز التنسيق بين العين واليد، ويُنمي المهارات الحركية الدقيقة، ويُطلق العنان للخيال والإبداع.

على الصعيد العاطفي، يُقدم الرسم متنفسًا آمنًا للتعبير عن الفرح، الغضب، الحزن، أو القلق، مما يُساعد الطفل على تنظيم مشاعره. أما اجتماعيًا، فيُمكن أن يكون الرسم نشاطًا تشاركيًا يُعزز التواصل مع الآخرين. إن كل رسمة، مهما بدت بسيطة، هي بمثابة نافذة صغيرة تُطل على عالم الطفل الداخلي، وتُقدم رؤى عميقة حول حالته النفسية وتفاعله مع بيئته.


رسومات الأطفال الصغار ودلالاتها النفسية

 

تُقدم رسومات الأطفال أنماطًا متكررة يُمكن تحليلها نفسيًا للكشف عن دلالات عميقة تتعلق بشخصية الطفل، مشاعره، وعلاقاته. ويُعتبر تحليل رسومات الأطفال جزءًا من الاختبارات الإسقاطية في علم النفس، حيث يُفترض أن ما يُرسم يُسقط عليه الطفل جوانب من ذاته اللاواعية. ونستطيع أن نستعرض هنا بعض الرسومات الشائعة ودلالاتها النفسية وفق مراجع عالمية معتمدة مثل:

 

رسم الاسرة

رسم الذات والأسرة

 

أ – رسم الذات (Self-Portrait)

1- الحجم: يُشير حجم رسم الطفل لذاته إلى تقديره لذاته وشعوره بأهميته. فالرسم الكبير قد يدل على ثقة عالية بالنفس، بينما الرسم الصغير جدًا قد يُشير إلى شعور بالدونية أو القلق.

2- التفاصيل: تُعبر التفاصيل المضافة إلى الجسم (مثل الأذنين، العينين، الفم، الأنف، الأصابع) عن وعي الطفل بجسده وتفاعله مع العالم. فغياب بعض التفاصيل قد يدل على مشاكل في التواصل أو الإدراك. على سبيل المثال، العيون الكبيرة جدًا قد تُشير إلى شعور الطفل بأنه مُراقب أو فضولي، بينما الفم الكبير أو المفتوح قد يُعبر عن الحاجة إلى التواصل أو العدوانية اللفظية.

3-الموضع: يُمكن أن يُشير موضع الرسم على الصفحة إلى شعور الطفل بالأمان أو القلق. فالرسم في منتصف الصفحة قد يدل على التوازن، بينما الرسم في الزاوية السفلية قد يُشير إلى شعور بعدم الأمان أو الحاجة إلى الدعم.

 

ب- رسم أفراد الأسرة

1- الترتيب والحجم: يُعبر ترتيب أفراد الأسرة وحجم كل فرد عن أهمية كل شخص في حياة الطفل وعلاقته به. فالشخص الذي يُرسم بحجم كبير قد يكون هو الأكثر تأثيرًا أو أهمية في نظر الطفل، بينما الشخص الذي يُرسم بحجم صغير أو يُهمل قد يُشير إلى شعور بالانفصال عنه أو عدم الأهمية.

2- التفاعل: تُشير طريقة تفاعل أفراد الأسرة في الرسم (مثل الإمساك بالأيدي، المسافة بينهم، تعابير الوجه) إلى ديناميكية العلاقة الأسرية. الأيدي المتشابكة قد تدل على الترابط والحب، بينما المسافات الكبيرة أو الوجوه العابسة قد تُشير إلى توتر أو صراعات.

3- التفاصيل المفقودة أو المبالغ فيها: غياب أحد أفراد الأسرة قد يُشير إلى مشاعر الغضب أو الرغبة في إقصائه. المبالغة في رسم أجزاء معينة (مثل الأيدي الكبيرة لشخص يُعاقب الطفل) قد تُشير إلى خوف أو قلق من ذلك الشخص.

رسم الحيوانات

رسومات الأطفال والحيوانات

ج- الرسوم الحيوانية/ انعكاس للمشاعر الغريزية

تُستخدم الحيوانات غالبًا كرموز للمشاعر الغريزية في رسومات الأطفال، أو جوانب من شخصية الطفل، أو حتى الأشخاص المحيطين به.

1- الحيوانات الأليفة: قد ترمز إلى الأمان، الحب، أو الحاجة إلى الرفقة. رسم حيوان أليف كبير ومُهتم به قد يُشير إلى شعور الطفل بالحب والدعم.

2- الحيوانات البرية أو المفترسة: قد تُعبر عن العدوانية المكبوتة، المخاوف، أو الشعور بالتهديد. رسم حيوان قوي قد يُشير إلى رغبة الطفل في القوة أو الحماية.

3- الحيوانات الخيالية: تُظهر الخيال الواسع والإبداع، وقد تكون وسيلة للتعامل مع مشاعر معقدة.

4- دلالات كل نوع: القطة قد ترمز إلى الاستقلالية، الكلب إلى الوفاء والحماية، الأسد إلى القوة والسلطة، والفأر إلى الخوف أو الضعف.

 

رسم الأماكن

رسم المنازل والحديقة

 

د- المنازل والأماكن 

يُعد المنزل رمزًا للعائلة، الأمان، والانتماء. طريقة رسم المنزل تُقدم رؤى حول شعور الطفل ببيئته الأسرية.

1- الحجم والتفاصيل: المنزل الكبير ذو النوافذ والأبواب المفتوحة قد يُشير إلى شعور بالأمان، الدفء، والانفتاح الأسري. بينما المنزل الصغير، المغلق، أو الذي يفتقر للتفاصيل قد يدل على شعور بالعزلة، عدم الأمان، أو وجود مشاكل أسرية.

2- المدخنة والدخان: المدخنة قد ترمز إلى دفء العلاقة الأسرية. الدخان الكثيف قد يُشير إلى توتر أو صراعات داخل الأسرة.

3- غياب النوافذ أو الأبواب: قد يُعبر عن شعور الطفل بالانغلاق أو عدم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي أو داخل الأسرة.

4- رسوم المدرسة أو الحديقة: تُعبر عن تجارب الطفل الاجتماعية خارج المنزل. المدرسة الملونة والمفتوحة قد تُشير إلى تجربة إيجابية، بينما المدرسة القاتمة أو المغلقة قد تدل على صعوبات أكاديمية أو اجتماعية.

 

س- رسوم الطبيعة والجمال

تُستخدم عناصر الطبيعة للتعبير عن المشاعر الداخلية للطفل وتفاعله مع بيئته، وسوف نناقش معكم بعض عناصر الطبيعية ودلالاتها في رسوم الأطفال مثل:

1- الشمس: تُعد رمزًا للسلطة، الدفء، والحب.

 حجم الشمس وموضعها: الشمس الكبيرة والمشرقة قد تُشير إلى شعور الطفل بالحب والدعم من شخصية سلطوية (الأب أو الأم). الشمس الصغيرة أو المختبئة خلف الغيوم قد تدل على شعور بالخوف أو النقص في الدعم.

الشمس ذات الوجه: الشمس ذات الوجه المبتسم تُعبر عن الفرح والسعادة، بينما الوجه العابس قد يُشير إلى الحزن أو الغضب.

2- الأشجار: ترمز إلى النمو، القوة، والثبات.

الجذع والجذور: الجذع القوي والجذور الظاهرة قد تُشير إلى شعور الطفل بالثبات والأمان. الجذع الضعيف أو الجذور المقطوعة قد تدل على شعور بعدم الأمان أو صدمة.

الأوراق والفروع: الأوراق الخضراء الكثيفة والفروع الممتدة تُعبر عن النمو، الحيوية، والقدرة على التواصل. الأوراق المتساقطة أو الفروع المكسورة قد تُشير إلى الحزن أو الشعور بالضعف.

3- الغيوم والمطر: قد تُعبر عن مشاعر الحزن، القلق، أو الضيق. المطر الغزير قد يُشير إلى شعور بالبكاء أو الحاجة إلى التنفيس.

 

رسم الألوان

رسومات الأطفال و الألوان

 

ش- رسوم الألوان: لغة المشاعر الصريحة

تُعد الألوان من أقوى الأدوات التعبيرية في رسومات الأطفال، وتُقدم دلالات مباشرة عن حالتهم العاطفية.

 الألوان الزاهية والمشرقة (الأحمر، الأصفر، البرتقالي): غالبًا ما تُشير إلى الفرح، الحيوية، الطاقة، والتفاؤل. – استخدامها بكثرة قد يدل على طفل سعيد ونشيط.

الألوان الداكنة (الأسود، الرمادي، البني): قد تُعبر عن الحزن، الغضب، الخوف، أو القلق. الاستخدام المفرط للأسود قد يُشير إلى مشاعر مكبوتة أو اكتئاب.

الألوان الهادئة (الأزرق، الأخضر): ترمز إلى الهدوء، السلام، الاستقرار، والطبيعة.

الألوان المفضلة: اللون المفضل للطفل قد يُشير إلى سمات شخصيته أو حالته المزاجية السائدة.

 

ص- رسوم الخطوط والأشكال: تنظيم الفكر والطاقة

تُقدم طريقة استخدام الخطوط والأشكال رؤى حول تنظيم الطفل لأفكاره وطاقته وميولاته المختلفة مثل:

1- الخطوط المستقيمة والمنظمة: قد تُشير إلى طفل منظم، دقيق، ويسعى للسيطرة.

2- الخطوط المنحنية والناعمة: تُعبر عن المرونة، الهدوء، واللطف.

3- الخطوط المتعرجة أو المتقطعة: قد تدل على التوتر، القلق، أو الفوضى الداخلية.

4- الأشكال الهندسية (المربعات، الدوائر): قد تُشير إلى التفكير المنطقي، الحاجة إلى النظام، أو الشعور بالأمان. الدوائر غالبًا ما ترمز إلى التكامل والكمال.

5- الأشكال العضوية أو الحرة: تُعبر عن الإبداع، العفوية، والتحرر.


أسس التحليل النفسي لرسومات الأطفال

 

تحليل رسومات الأطفال

تحليل رسومات الأطفال

 

يُعتمد في تحليل رسومات الأطفال على عدة أسس نظرية في علم النفس، أبرزها:

1- الإسقاط (Projection): يُعد المبدأ الأساسي في الاختبارات الإسقاطية. يُفترض أن الطفل، عندما يرسم، يُسقط على الرسم مشاعره، أفكاره، وصراعاته اللاواعية. فالرسم يُصبح مرآة لما يدور في عالمه الداخلي.

2- الرمزية (Symbolism): تُشير العناصر المرسومة إلى رموز تحمل دلالات نفسية عميقة. فالمنزل ليس مجرد بناء، بل رمز للأمان الأسري؛ والشمس ليست مجرد نجم، بل رمز للسلطة الأبوية.

3- المراحل التنموية (Developmental Stages): يُؤخذ في الاعتبار أن رسومات الأطفال تتطور عبر مراحل عمرية محددة. فما يُعتبر طبيعيًا في رسم طفل في الثالثة من عمره قد لا يكون كذلك لطفل في الثامنة. يُمكن للمحلل أن يُقارن الرسم بالمعايير التنموية لتحديد ما إذا كان هناك تأخر أو تقدم.

4- الشكل والمحتوى (Form and Content): لا يُركز التحليل على ما رُسم فقط (المحتوى)، بل أيضًا على كيفية رسمه (الشكل)، مثل قوة الخطوط، استخدام المساحة، واختيار الألوان. كلاهما يُقدم معلومات قيمة.

يُشدد على أن التحليل النفسي لرسومات الأطفال يجب أن يكون شموليًا ومتكاملًا، ولا يُعتمد على عنصر واحد فقط. يجب أن تُؤخذ في الاعتبار خلفية الطفل، ظروفه الأسرية، وتفاعلاته اليومية لتقديم تفسير دقيق وموضوعي.


نصائح حول كيف نفهم رسومات الأطفال؟

 

إن فهم رسومات الأطفال يتطلب حساسية وملاحظة دقيقة، بعيدًا عن التفسيرات السطحية أو الحكم المسبق. فكل مربٍ أو معلم، وكل والد أو والدة، يُمكنه أن يُصبح قارئًا جيدًا لهذه اللغة الصامتة من خلال اتباع بعض الإرشادات:

1- الملاحظة الشاملة لا التفسير الفردي: لا تُفسروا الرسم بناءً على عنصر واحد فقط. انظروا إلى الرسم ككل: الألوان المستخدمة، حجم الأشكال، موضعها على الصفحة، وحتى قوة الخطوط. هل الرسم مشتت أم منظم؟ هل الألوان زاهية أم قاتمة؟

2- تشجيع الحوار المفتوح: بدلاً من سؤال “ما هذا؟”، اسألوا أسئلة مفتوحة تُشجع الطفل على التعبير عن قصته. على سبيل المثال: “أخبرني عن رسمتك، ما الذي يحدث هنا؟”، “ما الذي تشعر به هذه الشخصية؟”، “لماذا اخترت هذه الألوان؟“. دَعوا الطفل يقود الحوار ويُفسر رسمه بنفسه.

3- التركيز على العملية لا المنتج النهائي: الأهم من جودة الرسم هو عملية الرسم نفسها. كيف كان الطفل يرسم؟ هل كان سعيدًا، غاضبًا، مركزًا؟ هل استمتع بالنشاط؟ هذا يُقدم رؤى حول حالته العاطفية أثناء الرسم.

4- توفير بيئة آمنة وداعمة: يجب أن يشعر الطفل بالأمان التام للتعبير عن نفسه بحرية دون خوف من النقد أو السخرية. لا تُصححوا رسوماتهم أو تُقارنوها برسومات الآخرين. فكل رسمة هي تعبير فريد عن عالم الطفل.

5- ملاحظة التغييرات والأنماط المتكررة: هل هناك تغيير مفاجئ في أسلوب الرسم أو الألوان المستخدمة؟ هل يُكرر الطفل رسم عناصر معينة (مثل وحوش، أو أشكال مظلمة)؟ هذه التغييرات أو الأنماط قد تُشير إلى وجود مشاعر أو تجارب جديدة يُعالجها الطفل.

6- الاستعانة بالمتخصصين عند الحاجة: إذا لاحظتم أن رسومات الطفل تُعبر عن قلق شديد، حزن عميق، عدوانية مفرطة، أو أي مشاعر سلبية مستمرة لا يُمكن فهمها أو التعامل معها، فلا تترددوا في طلب المساعدة من أخصائي نفسي للأطفال أو معالج بالفن. هم يمتلكون الأدوات والخبرة اللازمة لتقديم الدعم المناسب.

7- الرسم كوسيلة للتفريغ العاطفي: شجعوا الأطفال على الرسم عندما يكونون غاضبين، حزينين، أو قلقين. يُمكن للرسم أن يكون وسيلة رائعة لتفريغ هذه المشاعر بطريقة صحية وبناءة.

أخيرا، إن رسومات الأطفال هي كنوز ثمينة، تُقدم لنا لمحات فريدة عن عوالمهم الداخلية المعقدة والمليئة بالمشاعر. فكل خط، وكل لون، وكل شكل يُرسم، هو بمثابة كلمة في قاموسهم الخاص، تُروى بها قصصهم، وتُعبر بها عن آمالهم ومخاوفهم. على عاتق كل مربٍ ومعلم، وكل والد ووالدة، تقع مسؤولية عظيمة في فهم هذه اللغة الصامتة، وتوفير البيئة الداعمة التي تُمكن أطفالنا من التعبير عن ذواتهم بحرية وأمان.

إن الاهتمام بنمط رسومات الأطفال ليس مجرد تحليل نفسي، بل هو فعل حب واهتمام عميق، يُرسل رسالة واضحة للطفل بأنه مسموع، مرئي، ومفهوم. فدعونا نُقدر هذه الأعمال الفنية الصغيرة، ونُصغي إلى ما تُخبرنا به، لنُسهم في بناء جيل يتمتع بصحة نفسية قوية، قادر على الإبداع، التعبير، والمساهمة بإيجابية في مجتمعه. فالأطفال هم مستقبلنا، وفي رسوماتهم تكمن بذور هذا المستقبل، تنتظر من يراها ويُنميها.


انقر هنا للانضمام في صفحتنا فيس بوك

 

انقر هنا لقراءة المزيد حول رسومات الأطفال